حين زار وفد صندوق النقد الدولي الكويت في أيلول/سبتمبر الماضي، لمناقشة «مواضيع مرتبطة بالسياسات المالية وإدارة الثروات»، جاء حاملاً جملة مخاوف، من بينها احتمال أن تتعرض الكويت لعجز كبير في الميزانية العامة للدولة «بسبب عدم التحكم في الإنفاق العام، وبسبب كلفة وعدم كفاءة الخدمات التي تقدمها في مختلف القطاعات»، علاوة على ما تستنزفه «فاتورة الدعومات الكبيرة ضمن الموازنة العامة». ولتأكيد واقعية هذه المخاوف، أشار الوفد إلى تقلبات سوق النفط العالمي و«توقع انخفاض سعر برميل النفط ليتراوح ما بين 65 إلى 70 دولاراً بحلول 2018»، (وهذا توقع مبالِغ في تشاؤمه تقابله توقعات معاكسة له). من جهة أخرى امتدح وفد الصندوق الجهود الحكومية، إلا إنه طالبها بالعمل على إقناع مجلس الأمة بقبول التوصيات التي سبق للصندوق تقديمها، وخاصة فيما يتعلق بفرض القيمة المضافة، ورفع رسوم استهلاك الكهرباء والمياه، وخفض الإنفاق العام، علاوة على تسريع جهود الخصخصة. كما طالب الحكومة بمواجهة مساعي النواب لرفع الرواتب والأجور في القطاع الحكومي خلال الخمس السنوات القادمة. لا تختلف كثيراً توصيات خبراء الصندوق إلى الحكومة الكويتية عن التوصيات التي قدموها للمسئولين في دول خليجية أخرى في الفترة نفسها. وقد أعادت كريستين لاغارد، مديرة صندوق النقد الدولي، التذكير بتلك التوصيات خلال زيارتها الى الكويت في تشرين الثاني/نوفمبر الفائت. وفي كل الأحوال، لا تتضمن توصيات خبراء الصندوق في هذا الشأن تخفيض الإنفاق العسكري، وخاصة على استيراد منظومات الأسلحة المتقدمة من الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات.
كل «فرنجي برنجي»
تشكل تقارير خبراء صندوق النقد الدولي مرتكزاً رئيسيا للحكومات في بلدان الخليج العربية حين تضع سياساتها المالية والاقتصادية. فعلى الرغم من توافر الكفاءات المالية والاقتصادية المحلية، إلا إن أصوات هؤلاء لا تساوي على ما يبدو أهمية أصوات «خبراء» الصندوق الدولي. ولهذا لا يبدو مستغرباً أن تكون الورقة التي أعدها هؤلاء الخبراء هي وثيقة العمل الأساسية التي ناقشها الاجتماع السنوي لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في بلدان مجلس التعاون الخليجي ( تشرين الأول/أكتوبر 2013). وقد طرحت تلك الورقة سيناريوهات تروج لاقتصاد عالمي يتمحور حول اقتصاد الولايات المتحدة وبقية بلدان المركز. ففي الوقت الذي تدعو إلى «ضبط الإنفاق العام» في البلدان الخليجية، نراها تقترح على الحكومات اتخاذ قرارات برفع الدعم عن بعض السلع الرئيسة الاستهلاكية مثل اللحوم والحبوب والبنزين، علاوة على «تخليص» الدولة من أعباء الخدمات الصحية والتعليمية عبر خصخصة هذيْن القطاعيْن.
الوصفة هي نفسها في كل مكان
لا تختلف الوصفة التي يقدمها صندوق النقد الدولي إلى الكويت وبقية بلدان مجلس التعاون الخليجي الغنية بمواردها وعائداتها النفطية والغازية عن وصفة «إعادة الهيكلة الاقتصادية المحسّنة» التي قدمها الصندوق بالتعاون مع البنك الدولي إلى بلدان كثيرة في العالم الثالث. والوصفة في صورها الأولى فُرضت، إبان أزمة الديون في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، على بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية قبل أن تتمدد تطبيقاتها لتشمل مختلف مناطق العالم في ظل إجراءات العولمة. قد تختلف التفاصيل من بلد إلى آخر، إلا إنها تعتمد على مرتكزات الاقتصاد اللبرالي الجديد، التي تشمل: 1) ضبط الإنفاق الحكومي العام، 2) إلغاء تدريجي لدعم المواد الاستهلاكية الرئيسية، 3) خصخصة القطاع العام واستثمارات الدولة في مجالات الصناعة والمواصلات والمياه والطاقة، 4) خصخصة مختلف أنشطة قطاع الخدمات الاجتماعية، بما فيها التعليم والصحة والخدمات البلدية والبيئية، 5) انتهاج سياسة الباب المفتوح أمام الاستثمارات الأجنبية، بما في ذلك إلغاء قوانين حماية المنتجات الصناعية والزراعية المحلية وغيرها من «معيقات» الاستثمارات الخارجية.
ولا تختلف التبريرات التي يوفرها دعاة تفكيك القطاع العام في بلدان الخليج عن تلك التبريرات التي تتضمنها تمائم صندوق النقد الدولي في مختلف البلدان. فهي تبدأ بالإشارة إلى أن أداء القطاع العام دون المستوى المتوقع، وإن غالبية مؤسساته تتكبد خسائر كبيرة نظراً لتدني إنتاجيتها وربحيتها، مما يجعلها عبئاً ثقيلاً على موازنات الحكومات. ثم تنتقل إلى التأكيد على أن نقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص سيؤدي إلى»رفع الكفاءة وتخفيض التكلفة» (الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي). ويشارك أكاديميون في الحملة على القطاع العام، عبر تجهيل الناس بأسباب تدني إنتاجية القطاع العام وتدني ربحيته. والأمثلة كثيرة، منها ما كتبه أحد أساتذة الاقتصاد في جامعة الكويت الذي عاب على حكومات دول مجلس التعاون استخدام فوائضها النفطية في توسيع دورها ومستوى تدخلها في الاقتصاد المحلي، إذ «لم يسهم ارتفاع أسعار النفط والإيرادات النفطية سوى في جر حكومات دول المجلس إلى الإفراط في الإنفاق العام، وإضافة التزامات وأعباء دائمة على المالية العامة، كزيادات المرتبات أو اعتماد الدعم أو غيرها من أشكال الإنفاق الجاري والتي يصعب التخلص من أعبائها في المستقبل، خاصة عند حدوث أي تراجع في أسعار النفط إلى مستويات حرجة» (محمد إبراهيم السقّا في «الاقتصادية» 29/11/ 2013).
وعلى الرغم من ترحيب المؤسسة الرسمية في الكويت بجهود وفد الصندوق الدولي وتوصياته، إلا إنها واجهت تحفظات وانتقادات في بعض وسائل الإعلام . ولهذا فمن المتوقع أن الحكومة الكويتية لن تتمكن، في ظل التوازنات السياسية في مجلس الأمة وفي الشارع الكويتي، من تمرير معظم تلك التوصيات. فقد انتقدها نوابٌ كويتيون باعتبارها تستند إلى معطيات غير دقيقة وإلى توقعات مستقبلية غير واقعية. وكان المجلس قد اتخذ قراراً في العام 1995 يمنع الحكومة من زيادة تعرفة استهلاك المياه والكهرباء دون موافقته. بل بين النواب من اعتبر إن التوصيات التي يقدمها الصندوق لا تهدف إلى مساعدة الدول على تجاوز مصاعبها بقدر ما تهدف إلى فتح أسواقها أمام الرأسمالية الكبرى، أو كما قال الباحث الكويتي اليساري أحمد الديين، فإن تنفيذ مشاريع الخصخصة، بتسمياتها وأشكالها المختلفة، سيؤدي إلى «تقليص ثم تصفية الدور الاقتصادي للدولة وتحديداً تصفية قطاع الدولة أو القطاع العام، وتسليمه إلى المستثمرين وأصحاب المال والأعمال».
مسار الخصخصة في الكويت
لن يسير قطار تفكيك القطاع العام في الكويت بنفس سرعته المتوقعة في بلدان مجلس التعاون الأخرى، وخاصة السعودية والبحرين وعُمان. إلا إن هذا التفاؤل قد لا يصمد أمام ضغوط مزدوجة من جانب المضاربين المحليين ومن جانب صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. فالكويت على أية حال سارت بثبات منذ العام 1991 ـ أي بعد «تحريرها» ـ في طريق تصفية القطاع العام. فقبل ذلك، في العام 1990، كانت الدولة تمتلك - علاوة على المؤسسات العاملة في الحقل النفطي - أكثر من ستين شركة استثمارية يشكل مجموع رأسمالها حوالي 70 في المئة من رأسمال قطاع الشركات في الكويت. وشملت أعمال الشركات التي تمتلكها الدولة بالكامل أو جزئياً، قطاعات إستراتيجية للتنمية والأمن الغذائي بما فيها شركة الإسمنت والمطاحن والثروة السمكية والدواجن وزلاقة وتصليح السفن، بالإضافة إلى عدد من البنوك وشركات تعمل في قطاعيْ التأمين و العقارات. اتخذ تفكيك القطاع العام في الكويت ثلاثة مسارات: البيع لأصحاب أفضل العروض بما يشبه المزاد، أو البيع للشركاء المساهمين في الشركة، أو طرح الأسهم الحكومية للبيع في سوق الأسهم. ولا يخلو أيٍ من هذه المسارات من شبهات الفساد المباشر أو غير المباشر، عبر المعاملة التفضيلية للمتنفذين في الدولة وفي السوق. وبعد عشرين سنة من حملات الخصخصة، انخفض في العام 2011 عدد الشركات التي تملكها الدولة كلياً أو جزئياً إلى 14 شركة. وسينخفض هذا الرقم قريباً بعد أن وافق مجلس الأمة في كانون الثاني/يناير الماضي على مشروع قانون بخصخصة الخطوط الجوية الكويتية.
خيارات صعبة
في مقابل سهولة تصفية قطاع الدولة في المجالين الاستثماري والتجاري، ستواجه الحكومة الكويتية تعقيدات كبيرة في ما يتعلق بتوصيات صندوق النقد الدولي المتعلقة بإيجاد السبل الكفيلة بكبح الإنفاق العام. وهي توصيات تركز على المطالبة بالتصدي لزيادة الأجور ولتقليل حجم التوظيف في القطاع الحكومي علاوة على تخفيض، ثم إزالة جميع أشكال الدعم الحكومي للمواد الغذائية الرئيسية واستهلاك الماء والكهرباء والغاز. وستجد الحكومة الكويتية صعوبات أكبر أيضاً حين تقرر خصخصة أنشطتها في مجال الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية. فلن يكون سهلاً تسويقها بالإشارة إلى إن عدم كفاءة أداء القطاع العام وارتفاع كلفته مقارنة بالقطاع الخاص. فكما تشير الخبرات المتراكمة لأغلب البلدان التي طبقت برامج إعادة الهيكلة الاقتصادية، بشكليها القديم والمحسَّن، فإن هذا الإدعاء لا يستند إلى أدلة يدافع عنها. بل على الضد. إذ تتراكم الدراسات التي تشير نتائجها إلى ارتفاع الكلفة الاجتماعية للخصخصة، سواء بسبب تسريح الموظفين والعمال، أو بسبب تخفيض نوعية الخدمات المقدمة أو رفع سعرها على المستهلكين، من تلاميذ المدارس أو المرضى. ولن يمكن تسويق برامج خصخصة التعليم بحجة إن ذلك سيضمن، كما قالت مديرة صندوق النقد الدولي لمضيفيها في الكويت «سهولة حصول كل الفتيات على التعليم عالي الجودة»، في الوقت الذي تشير خبرات بلدان أخرى عربية وغير عربية إلى إن تعليم الفتيات هو أولى ضحايا ارتفاع كلفة التعليم جراء تسليمه لشركات خاصة هدفها الأول هو مراكمة الأرباح!
[ينشر ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"السفير العربي" ]